فصل: تفسير الآية رقم (10)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


سورة البروج

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 9‏]‏

‏{‏وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ ‏(‏1‏)‏ وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ ‏(‏2‏)‏ وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ ‏(‏3‏)‏ قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ ‏(‏4‏)‏ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ ‏(‏5‏)‏ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ ‏(‏6‏)‏ وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ ‏(‏7‏)‏ وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ‏(‏8‏)‏ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ‏(‏9‏)‏‏}‏

في افتتاح السورة بهذا القسم تشويق إلى ما يرد بعده وإشعار بأهمية المقسم عليه، وهو مع ذلك يَلفت ألبابَ السّامعين إلى الأمور المقسم بها، لأن بعضها من دلائل عظيم القدرة الإلهية المقتضية تفرد الله تعالى بالإلهية وإبطالَ الشريك، وبعضها مذكِّر بيوم البعث الموعود، ورمز إلى تحقيق وقوعه، إذ القسم لا يكون إلا بشيء ثابت الوقوع وبعضها بما فيه من الإِبهام يوجِّه أنفُس السامعين إلى تطلب بيانه‏.‏

ومناسبةُ القسم لما أقسم عليه أن المقسم عليه تضمن العبرة بقصة أصحاب الأخدود ولما كانت الأخاديد خُطوطاً مجعولة في الأرض مستَعِرَة بالنار أقسم على ما تضمنها بالسماء بقيد صفة من صفاتها التي يلوح فيها للناظرين في نجومها ما سماه العرب بروجاً وهي تشبه دارات متلألئة بأنوار النجوم اللامعة الشبيهة بتلهب النار‏.‏

والقسم بالسماء بوصف ذات البروج يتضمن قسماً بالأمرين معاً لتلتفت أفكارُ المتدبرين إلى ما في هذه المخلوقات وهذه الأحوال من دلالة على عظيم القدرة وسعة العلم الإلهي إذ خلقها على تلك المقادير المضبوطة لينتفع بها الناس في مواقيت الأشهر والفصل‏.‏ كما قال تعالى في نحو هذا‏:‏ ‏{‏ذلك لتعلموا أن اللَّه يعلم ما في السماوات وما في الأرض وأن اللَّه بكل شيء عليم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 97‏]‏‏.‏

وأما مناسبة القسم باليوم الموعود فلأنه يوم القيامة باتفاق أهل التأويل لأن الله وعد بوقوعه قال تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون‏}‏ ‏[‏المعارج‏:‏ 44‏]‏ مع ما في القَسم به من إدماج الإِيماء إلى وعيد أصحاب القصة المقسَم على مضمونها، ووعيد أمثالهم المعرَّض بهم‏.‏

ومناسبة القسم ب ‏{‏شاهد ومشهود‏}‏ على اختلاف تأويلاته، ستُذكر عند ذكر التأويلات وهي قريبة من مناسبة القَسم باليوم الموعود، ويقابله في المقسم عليه قوله‏:‏ ‏{‏وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود‏}‏‏.‏

والبروج‏:‏ تطلق على علامات من قبة الجَو يتراءى للناظر أن الشمس تكون في سمتها مدة شهر من أشهر السنة الشمسية، فالبرج‏:‏ اسم منقول من اسم البُرج بمعنى القصر لأن الشمس تنزله أو منقول من البرج بمعنى الحصن‏.‏

والبرج السماوي يتألف من مجمُوعة نجوم قريب بعضها من بعض لا تختلف أبعادها أبداً، وإنما سُمِّي بُرجاً لأن المصطلحين تخيلوا أن الشمس تحلّ فيه مُدّة فهو كالبرج، أي القصر، أو الحصن، ولما وجدوا كل مجموعة منها يُخَال منها شكلٌ لو أحيط بإطار لخط مفروض لأشبَهَ محيطُها محيط صورة تخيلية لبعض الذوات من حيوان أو نبات أو آلات، ميّزوا بعض تلك البروج من بعض بإضافته إلى اسم ما تشبهه تلك الصورة تقريباً فقالوا‏:‏ برج الثَّور، برج الدلو، برج السنبلة مثلاً‏.‏

وهذه البروج هي في التّحقيق‏:‏ سُموت تقابلها الشمس في فلكها مدة شهر كامل من أشهُر السنة الشمسية يوقتون بها الأشهر والفصول بموقع الشمس نهاراً في المكان الذي تطلع فيه نجوم تلك البروج ليلاً، وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏

‏{‏تبارك الذي جعل في السماء بروجاً‏}‏ في سورة الفرقان ‏(‏61‏)‏‏.‏

وشاهد ومشهود‏}‏ مراد بهما النوع‏.‏ فالشاهد‏:‏ الرائي، أو المخبر بحق لإِلزام منكره‏.‏ والمشهود‏:‏ المَرئي أو المشهود عليه بحق‏.‏ وحذف متعلق الوصفين لدلالة الكلام عليه فيجوز أن يكون الشاهد حاضرَ ذلك اليوم الموعود من الملائكة قال تعالى‏:‏ ‏{‏وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 21‏]‏‏.‏

ويجوز أن يكون الشاهد الله تعالى ويؤيده قوله‏:‏ ‏{‏واللَّه على كل شيء شهيد‏}‏ أو الرسل والملائكة‏.‏

والمشهود‏:‏ الناس المحشورون للحساب وهم أصحاب الأعمال المعرَّضون للحساب لأن العرف في المجامع أن الشاهد فيها‏:‏ هو السالم من مشقتها وهم النظارة الذين يطَّلعون على ما يجري في المجمع، وأن المشهود‏:‏ هو الذي يطَّلعُ الناسُ على ما يجري عليه‏.‏

ويجوز أن يكون الشاهد‏:‏ الشاهدين من الملائكة، وهم الحفظة الشاهدون على الأعمال‏.‏ والمشهود‏:‏ أصحاب الأعمال‏.‏ وأن يكون الشاهد الرسل المبلغين للأمم حين يقول الكفار‏:‏ ما جاءنا من بشير ولا نذير ومحمد صلى الله عليه وسلم يشهد على جميعهم وهو ما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 41‏]‏‏.‏

وعلى مختلف الوجوه فالمناسبة ظاهرة بين ‏{‏شاهد ومشهود‏}‏ وبين ما في المقسم عليه من قوله‏:‏ ‏{‏وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏إذ هم عليها قعود‏}‏ أي حضور‏.‏

وروى الترمذي من طريق موسى بن عبيدة إلى أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ اليوم الموعود يوم القيامة واليوم المشهود يوم عرفة والشاهد يوم الجمعة ‏"‏‏.‏ أي فالتقدير‏:‏ ويوممٍ شاهد ويوممٍ مشهود‏.‏ قال الترمذي‏:‏ هذا حديث لا نعرفه إلا من حديث موسى بن عبيدة وموسى بن عبيدة يضعف في الحديث ضعفه يحيى بن سعيد وغيره من قِبَل حفظه اه‏.‏

ووصف «يوم» بأنه «شاهد» مجاز عقلي، ومحمل هذا الحديث على أن هذا مما يراد في الآية من وصف ‏{‏شاهد‏}‏ ووصف ‏{‏مشهود‏}‏ فهو من حَمْل الآية على ما يحتمله اللفظ في حقيقة ومجاز كما تقدم في المقدمة التاسعة‏.‏

وجواب القسم قيل محذوف لدلالة قوله‏:‏ ‏{‏قتل أصحاب الأخدود‏}‏ عليه والتقدير أنهم ملعونون كما لعن أصحاب الأخدود‏.‏ وقيل‏:‏ تقديره‏:‏ أن الأمر لحق في الجزاء على الأعمال‏:‏ أو لتبعثن‏.‏

وقيل‏:‏ الجواب مذكور فيما يلي فقال الزجاج‏:‏ هو ‏{‏إن بطش ربك لشديد‏}‏ ‏[‏البروج‏:‏ 12‏]‏ ‏(‏أي والكلام الذي بينهما اعتراض قصد به التوطئة للمقسم عليه وتوكيد التحقيق الذي أفاده القسم بتحقيق ذكر النظير‏)‏‏.‏ وقال الفراء‏:‏ الجواب‏:‏ ‏{‏قُتل أصحاب الأخدود‏}‏ ‏(‏أي فيكون قُتِلَ خَبَراً لادعاء وَلا شتماً ولا يلزم ذكر ‏(‏قد‏)‏ في الجواب مع كون الجواب ماضياً لأن ‏(‏قد‏)‏ تحذف بناء على أن حذفها ليس مشروطاً بالضرورة‏)‏‏.‏

ويتعين على قول الفراء أن يكون الخبر مستعملاً في لازم معناه من الإِنذار للذين يَفتنون المؤمنين بأن يحلّ بهم ما حلّ بفاتني أصحاب الأخدود، وإلا فإن الخبر عن أصحاب الأخدود لا يحتاج إلى التوكيد بالقسم إذ لا ينكره أحد فهو قصة معلومة للعرب‏.‏

وانتساق ضمائر جمع الغائب المرفوعة من قوله‏:‏ ‏{‏إذ هم عليها قعود‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وما نقموا‏}‏ يقتضي أن يكون أصحاب الأخدود وَاضعيه لتعذيب المؤمنين‏.‏

وقيل‏:‏ الجواب هو جملة‏:‏ ‏{‏إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات‏}‏ ‏[‏البروج‏:‏ 10‏]‏ فيكون الكلام الذي بينهما اعتراضاً وتوطئة على نحو ما قررناه في كلام الزجاج‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏قتل أصحاب الأخدود‏}‏ صيغته تشعر بأنه إنشاء شتم لهم شتم خزي وغضب وهؤلاء لم يُقتلوا ففعل قُتِل ليس بخبر بل شتم نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُتل الخرّاصون‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 10‏]‏‏.‏ وقولهم قاتله الله، وصدوره من الله يفيد معنى اللعن ويدل على الوعيد لأن الغضب واللعن يستلزمان العقاب على الفعل الملعون لأجله‏.‏

وقيل‏:‏ هو دعاء على أصحاب الأخدود بالقتل كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قتل الإنسان ما أكفره‏}‏ ‏[‏عبس‏:‏ 17‏]‏ والقَتل مستعار لأشد العذاب كما يقال‏:‏ أهلكه الله، أي أوقعه في أشد العناء، وأيَّاً مَّا كان فجملة ‏{‏قتل أصحاب الأخدود‏}‏ على هذا معترضة بين القسم وما بعده‏.‏

ومَن جَعل ‏{‏قتل أصحاب الأخدود‏}‏ جواب القسم جعل الكلام خبراً وقدَّره لقد قتل أصحاب الأخدود، فيكون المراد من أصحاب الأخدود الذين أُلقوا فيه وعُذبوا به ويكون لفظ أصحاب مستعملاً في معنى مجرد المقارنة والملازمة كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا صاحبي السجن‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 39‏]‏ وقد علمتَ آنفاً تَعيُّن تأويل هذا القول بأن الخبر مستعمل في لازم معناه‏.‏

ولفظ ‏{‏أصحاب‏}‏ يُعمّ الآمرين بجعل الأخدود والمباشرين لِحفره وتسعيره، والقائمين على إلقاء المؤمنين فيه‏.‏

وهذه قصة اختلف الرواة في تعيينها وفي تعيين المراد منها في هذه الآية‏.‏

والروايات كلها تقتضي أن المفتونين بالأخدود قوم اتبَعوا النصرانية في بلاد اليمن على أكثر الروايات، أو في بلاد الحبشة على بعض الروايات، وذُكرتْ فيها روايات متقاربة تختلف بالإِجمال والتفصيل، والترتيب، والزيادة، والتعيين وأصحّها ما رواه مسلم والترمذي عن صُهيب أن النبي صلى الله عليه وسلم قصَّ هذه القصة على أصحابه‏.‏ وليس فيما رُوي تصريح بأن النبي صلى الله عليه وسلم ساقها تفسيراً لهذه الآية والترمذي ساق حديثها في تفسير سورة البروج‏.‏

وعن مقاتل كان الذين اتخذوا الأخاديد في ثلاث من البلاد بنجران، وبالشام، وبفارس، أما الذي بالشام ف ‏(‏انطانيوس‏)‏ الرومي وأما الذي بفارس فهو ‏(‏بختنصر‏)‏ والذي بنجران فيوسف ذو نواس ولنذكر القصة التي أشار إليها القرآن تؤخذ من «سيرة ابن إسحاق» على أنها جرت في نجران من بلاد اليمن، وأنه كان مَلِكٌ وهو ذو نواس له كاهن أو ساحر‏.‏ وكان للساحر تلميذ اسمه عبد الله بن الثامر وكان يَجِد في طريقه إذا مشى إلى الكاهن صومعة فيها راهب كان يعبد الله على دين عيسى عليه السّلام ويقرأ الإنجيل اسمه ‏(‏فَيْمِيُون‏)‏ بفاء، فتحتية، فميم، فتحتية ‏(‏وضبط في الطبعة الأوروبية من «سيرة ابن إسحاق» التي يلوح أن أصلها المطبوعة عليه أصل صحيح، بفتح فسكون فكسر فضم‏)‏ قال السهيلي‏:‏ ووقع للطبري بقاف عوض الفاء‏.‏

وقد يحرف فيقال ميمون بميم في أوله وبتحتية واحدة، أصله من غسان من الشام ثم سَاح فاستقر بنجران، وكان منعزلاً عن الناس مختفياً في صومعته وظهرت لعبد الله في قومه كرامات‏.‏ وكان كلما ظهرت له كرامة دعا من ظهرتْ لهم إلى أن يتبعوا النصرانية، فكثر المتنصرون في نجران وبلغ ذلك المَلكَ ذا نُواس وكان يهودياً وكان أهل نجران مشركين يعبدون نخلة طويلة، فقتل الملك الغلامَ وقَتَل الراهب وأمر بأخاديد وجُمع فيها حَطب وأُشعلت، وعُرض أهل نجران عليها فمن رجع عن التوحيد تركه ومن ثبت على الدين الحق قذفه في النار‏.‏

فكان أصحاب الأخدود ممن عُذِّب من أهللِ دين المسيحية في بلاد العرب‏.‏ وقِصص الأخاديد كثيرة في التاريخ، والتعذيب بالحرق طريقة قديمة، ومنها‏:‏ نار إبراهيم عليه السلام‏.‏ وأما تحريق عَمرو بن هند مائةً من بني تميم وتلقيبُه بالمحرق فلا أعرف أن ذلك كان باتخاذ أخدود‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ رأيت في بعض الكتب أن أصحاب الأخدود هو مُحرق وآله الذي حَرق من بني تميم مائةً‏.‏

و ‏{‏الأخدود‏}‏‏:‏ بوزن أُفعول وهو صيغة قليلة الدوران غيرُ مقيسة، ومنها قولهم‏:‏ أفحوص مشتق من فحصت القطاة والدجاجةُ إذا بحثت في التراب موضعاً تَبيض فيه، وقولُهم أسلوب اسم لطريقة، ولسطر النّخل، وأقنوم اسم لأصل الشيء‏.‏ وقد يكون هذا الوزن مع هاء تأنيث مثل أكرومة، وأعجوبة، وأُطروحة وأضحوكة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏النار‏}‏ بدل من الأخدود بدلَ اشتمال أو بعضضٍ من كل لأن المراد بالأخدود الحفير بما فيه‏.‏

و ‏{‏الوقود‏}‏‏:‏ بفتح الواو اسم ما تُوقد به النار من حطب ونفط ونحوه‏.‏

ومعنى ‏{‏ذات الوقود‏}‏‏:‏ أنها لا يخمد لهبها لأن لها وقوداً يُلقى فيها كلّما خبت‏.‏

ويتعلق‏:‏ ‏{‏إذ هم عليها قعود‏}‏ بفعل قُتل، أي لعنوا وغضب الله عليهم حين قعدوا على الأخدود‏.‏

وضمير ‏{‏هم‏}‏ عائد إلى أصحاب الأخدود فإن الملك يحضر تنفيذ أمره ومعه ملأه، أو أريد بهم المأمورون من الملك‏.‏ فعلى احتمال أنهم أعوان الملك فالقُعود الجلوس كني به عن الملازمة للأخدود لئلا يتهاون الذين يحشون النار بتسعيرها، و‏(‏على‏)‏ للاستعلاء المجازي لأنهم لا يقعدون فوق النار ولكن حولها‏.‏ وإنما عبر عن القرب والمراقبة بالاستعلاء كقول الأعشى‏:‏

وبات على النار الندى والمحلق ***

ومثله قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وجد عليه أمة من الناس يسقون‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 23‏]‏، أي عنده‏.‏

وعلى احتمال أن يكون المراد ب ‏{‏أصحاب الأخدود‏}‏ المؤمنين المعذَّبين فيه، فالقُعود حقيقة و‏(‏على‏)‏ للاستعلاء الحقيقي، أي قاعدون على النار بأن كانوا يحرقونهم مربوطين بهيئة القعود لأن ذلك أشد تعذيباً وتمثيلاً، أي بعد أن يقعدوهم في الأخاديد يوقدون النار فيها وذلك أروع وأطول تعذيباً‏.‏

وأعيد ضمير ‏{‏هم‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏وهم على ما يفعلون‏}‏ ليتعيّن أن يكون عائداً إلى بعض أصحاب الأخدود‏.‏

وضمير ‏{‏يفعلون‏}‏ يجوز أن يعود إلى ‏{‏أصحاب الأخدود‏}‏، فمعنى كونهم شهوداً على ما يفعلونه‏:‏ أن بعضهم يشهد لبعض عند الملك بأن أحداً لم يفرط فيما وكّل به من تحريق المؤمنين، فضمائر الجمع وصيغته موزعة‏.‏

ويجوز أن يعود الضمير إلى ما تقتضيه دلالة الاقتضاء من تقسيم أصحاب الأخدود إلى أمراء ومأمورين شأن الأعمال العظيمة، فلمّا أخبر عن أصحاب الأخدود بأنهم قعود على النار عُلم أنهم الموكلون بمراقبة العمال‏.‏ فعُلم أن لهم أتباعاً من سَعَّارين ووزَعَة فهم معاد ضمير يفعلون‏.‏

وعلى هذا الوجه يجوز أن يكون شهود جمع شاهد بمعنى مخبر بحق، وأن يكون بمعنى حاضر ومراقب لظهور أن أحداً لا يشهد على فعل نفسه‏.‏

وجملة ‏{‏وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود‏}‏ في موضع الحال من ضمير ‏{‏إذ هم عليها قعود‏}‏ كأنه قيل‏:‏ قعود شاهدين على فِعلهم بالمؤمنين على الوجهين المتقدّمين في معاد ضمير ‏{‏يفعلون‏}‏، وفائدة هذه الحال تفظيع ذلك القعود وتعظيمُ جُرمه إذ كانوا يشاهدون تعذيب المؤمنين لا يرأفون في ذلك ولا يشمئزون، وبذلك فارقَ مضمون هذه الجملة مضمون جملة‏:‏ ‏{‏إذ هم عليها قعود‏}‏ باعتبار تعلق قوله‏:‏ ‏{‏بالمؤمنين شهود‏}‏‏.‏

وفي الإِتيان بالموصول في قوله‏:‏ ‏{‏ما يفعلون بالمؤمنين‏}‏ من الإِبْهام ما يفيد أن لِمُوقِدِي النارِ من الوزَعَة والعملة ومن يباشرون إلقاء المؤمنين فيها غلظةً وقسوة في تعذيب المؤمنين وإهانتهم والتمثيل بهم، وذلك زائد على الإِحراق‏.‏

وجملة ‏{‏وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا باللَّه‏}‏ في موضع الحال والواو واو الحال أو عاطفة على الحال التي قبلها‏.‏

والمقصود التعجيب من ظلم أهل الأخدود أنهم يأتون بمثل هذه الفظاعة لا لجرم من شأنه أن يُنقَم من فاعله فإن كان الذين خددواً الأخدود يهوداً كما كان غالب أهل اليمن يومئذ فالكلام من تأكيد الشيء بما يشبه ضده أي ما نقموا منهم شيئاً ينقم بل لأنهم آمنوا بالله وحده كما آمن به الذين عذبوهم‏.‏ ومحل التعجيب أن المَلك ذا نواس وأهل اليمن كانوا متهودين فهم يؤمنون بالله وحده ولا يشركون به فكيف يعذِّبون قوماً آمنوا بالله وحده مثلهم وهذا مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 59‏]‏ وإن كان الذين خدّدوا الأخدود مشركين ‏(‏فإن عرب اليمن بقي فيهم من يعبد الشمس‏)‏ فليس الاستثناء من تأكيد الشيء بما يشبه ضده لأنّ شأن تأكيد الشيء بما يشبه ضده أن يكون ما يشبه ضد المقصود هو في الواقع من نوع المقصود فلذلك يؤكد به المقصود وما هنا ليس كذلك لأن الملك وجنده نقموا منهم الإِيمان بالله حقيقة إن كان الملك مشركاً‏.‏

وإجراء الصفات الثلاث على اسم الجلالة وهي‏:‏ ‏{‏العزيز‏.‏ الحميد‏.‏ الذي له ملك السماوات والأرض‏}‏ لزيادة تقرير أن ما نقموه منهم ليس من شأنه أن ينقم بل هو حقيق بأن يُمدحُوا به لأنهم آمنوا بربّ حقيق بأن يؤمن به لأجل صفاته التي تقتضي عبادته ونبذَ ما عداه لأنه ينصُر مواليه ويثيبهم ولأنه يَمْلِكهم، وما عداه ضعيف العزة لا يضر ولا ينفع ولا يَملك منهم شيئاً فيقوى التعجيب منهم بهذا‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏واللَّه على كل شيء شهيد‏}‏ تذييل بوعيد للذين اتخذوا الأخدود وبوعد الذين عُذبوا في جنب الله، ووعيد لأمثال أولئك من كفار قريش وغيرهم من كل من تصدَّوْا لأذى المؤمنين ووعد المسلمين الذين عذبهم المشركون مثل بلاللٍ وعمار وصُهيب وسُمَيَّةَ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏10‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ ‏(‏10‏)‏‏}‏

إن كان هذا جواباً للقسم على قول بعض المفسرين كما تقدم كان ما بين القسم وما بين هذا كلاماً معترضاً يقصد منه التوطئة لوعيدهم بالعذاب والهلاك بذكر ما توعّد به نظيرهم، وإن كان الجواب في قوله‏:‏ ‏{‏قتل أصحاب الأخدود‏}‏ ‏[‏البروج‏:‏ 4‏]‏ كان قوله‏:‏ ‏{‏إن الذين فتنوا المؤمنين‏}‏ بمنزلة الفذلكة لما أقسم عليه إذ المقصود بالقسم وما أقسمَ عليه هو تهديد الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات من مشركي قريش‏.‏

وتأكيد الخبر ب ‏{‏إنَّ‏}‏ للرد على المشركين الذين ينكرون أن تكون عليهم تبعةً من فتن المؤمنين‏.‏

والذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات‏:‏ هم مشركو قريش وليس المراد أصحاب الأخدود لأنه لا يلاقي قوله‏:‏ ‏{‏ثم لم يتوبوا‏}‏ إذ هو تعريض بالترغيب في التوبة، ولا يلاقي دخول الفاء في خبر ‏{‏إنَّ‏}‏ من قوله‏:‏ ‏{‏فلهم عذاب جهنم‏}‏ كما سيأتي‏.‏

وقد عُدّ من الذين فتنوا المؤمنين أبو جهل رأسُ الفتنة ومِسْعَرها، وأميةُ بن خلف وصفوانُ بن أمية، والأسودُ بن عبد يغوث، والوليدُ بن المغيرة، وأمُّ أنْمار، ورجل من بني تَيْم‏.‏

والمفتونون‏:‏ عد منهم بلالُ بن رباح كان عبداً لأمية بن خلف فكان يعذبه، وأبو فُكيهة كان عبداً لصفوان بن أمية، وخَبَّابُ بن الأرتِّ كان عبداً لأمّ أنمار، وعَمّار بن ياسر، وأبوه ياسِر، وأخوه عبد الله كانوا عبيداً لأبي حذيفة بن المغيرة فوكَل بهم أبا جهل، وعامرُ بن فُهيرة كان عبداً لرجل من بني تَيْم‏.‏

والمؤمنات المفتونات منهنّ‏:‏ حَمَامَةُ أمُّ بلال أمَةُ أمية بن خلف‏.‏ وزِنِّيرَة، وأمُّ عنَيْس كانت أمة للأسود بن عبد يغوث والنهدية‏.‏ وابنتها كانتا للوليد بن المغيرة، ولطيفةُ، ولبينةُ بنت فهيرة كانت لعُمر بن الخطاب قبل أن يسلم كان عمر يَضربها، وسُمية أمُّ عمار بن ياسر كانت لعمّ أبي جهل‏.‏

وفُتِن ورجَع إلى الشرك الحارثُ بن ربيعة بن الأسود، وأبو قيس بن الوليد بن المغيرة، وعليُّ بن أمية بن خلف، والعاصي بن المنبه بن الحجاج‏.‏

وعَطفُ ‏{‏المؤمنات‏}‏ للتنويه بشأنهن لئلا يظنّ أن هذه المزية خاصة بالرجال، ولزيادة تفظيع فعل الفاتنين بأنهم اعتدَوا على النساء والشأن أن لا يتعرض لهن بالغلظة‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏ثم لم يتوبوا‏}‏ معترضة‏.‏ و‏{‏ثُمّ‏}‏ فيها للتراخي الرتبي لأن الاستمرار على الكفر أعظم من فتنة المؤمنين‏.‏

وفيه تعريض للمشركين بأنهم إن تابوا وآمنوا سلِمُوا من عذاب جهنم‏.‏

والفَتْن‏:‏ المعاملة بالشدة والإِيقاع في العناء الذي لا يجد منه مخلصاً إلا بعناء أو ضرّ أخف أو حيلة، وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والفتنة أشد من القتل‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏191‏)‏‏.‏

ودخول الفاء في خبر ‏(‏إنّ‏)‏ من قوله‏:‏ فلهم عذاب جهنم‏}‏ لأنّ اسم ‏(‏إن‏)‏ وقعَ مَوصولاً والموصول يضمَّن معنى الشرط في الاستعمال كثيراً‏:‏ فتقدير‏:‏ إن الذين فتنوا المؤمنين ثم إنْ لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم، لأن عطف قوله‏:‏ ‏{‏ثم لم يتوبوا‏}‏ مقصود به معنى التقييد فهو كالشرط‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏ولهم عذاب الحريق‏}‏ عطف في معنى التوكيد اللفظي لجملة‏:‏ ‏{‏لهم عذاب جهنم‏}‏‏.‏ واقترانُها بواو العطف للمبالغة في التأكيد بإيهام أن من يريد زيادة تهديدهم بوعيد آخر فلا يُوجد أعظم من الوعيد الأول‏.‏ مع ما بين عذاب جهنم وعذاب الحريق من اختلاف في المدلول وإن كان مآل المدلولين واحداً‏.‏ وهذا ضرب من المغايرة يحسن عطف التأكيد‏.‏

على أن الزج بهم في عذاب جهنم قبل أن يذوقوا حريقها لما فيه من الخزي والدفع بهم في طريقهم قال تعالى‏:‏ ‏{‏يوم يدعون إلى نار جهنم دعّاً‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 13‏]‏ فحصل بذلك اختلاف ما بين الجملتين‏.‏

ويجوز أن يراد بالثاني مضاعفة العذاب لهم كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين كفروا وصدوا عن سبيل اللَّه زدناهم عذاباً فوق العذاب‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 88‏]‏‏.‏

ويجوز أن يراد بعذاب الحريق حريق بغير جهنم وهو ما يضرم عليهم من نار تعذيب قبل يوم الحساب كما جاء في الحديث‏:‏ ‏"‏ القبر حفرة من حفر جهنم أو روضة من رياض الجنة ‏"‏ رواه البيهقي في «سننه» عن ابن عمر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ ‏(‏11‏)‏‏}‏

يجوز أن يكون استئنافاً بيانياً ناشئاً عن قوله‏:‏ ‏{‏ثم لم يتوبوا‏}‏ المقتضي أنهم إن تابوا لم يكن لهم عذاب جهنم فيتشوف السامعُ إلى معرفة حالهم أمقصورة على السلامة من عذاب جهنم أو هي فوق ذلك، فأخبر بأن لهم جنات فإن التوبة الإِيمان، فلذلك جيء بصلة ‏{‏آمنوا‏}‏ دون‏:‏ تابوا‏:‏ ليدل على أن الإِيمان والعمل الصالح هو التوبة من الشرك الباعث على فتن المؤمنين، وهذا الاستئناف وقع معترضاً‏.‏

ويجوز أن يكون اعتراضاً بين جملة ‏{‏إن الذين فتنوا المؤمنين‏}‏ ‏[‏البروج‏:‏ 10‏]‏ وجملة‏:‏ ‏{‏إن بطش ربك لشديد‏}‏ ‏[‏البروج‏:‏ 12‏]‏ اعتراضاً بالبشارة في خلال الإِنذار لترغيب المنذرين في الإِيمان، ولتثبيت المؤمنين على ما يلاقونه من أذى المشركين على عادة القرآن في إرداف الإِرهاب بالترغيب‏.‏

والتأكيد ب ‏{‏إنَّ‏}‏ للاهتمام بالخبر‏.‏

والإِشارة في ‏{‏ذلك‏}‏ إلى المذكور من اختصاصهم بالجنات والأنهار‏.‏

و ‏{‏الكبير‏}‏‏:‏ مستعار للشديد في بابه، والفوز‏:‏ مصدر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏

‏{‏إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ ‏(‏12‏)‏‏}‏

جملة‏:‏ ‏{‏إن بطش ربك لشديد‏}‏ علة لمضمون قوله‏:‏ ‏{‏إن الذين فتنوا المؤمنين‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏ولهم عذاب الحريق‏}‏ ‏[‏البروج‏:‏ 10‏]‏، أي لأن بطش الله شديد على الذين فتنوا الذين آمنوا به‏.‏ فموقع ‏{‏إنَّ‏}‏ في التعليل يغني عن فاء التسبب‏.‏

وبطش الله يشمل تعذيبه إياهم في جهنم ويشمل ما قبله مما يقع في الآخرة وما يقع في الدنيا قال تعالى‏:‏ ‏{‏يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 16‏]‏ ووجه الخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم لأن بطش الله بالذين فتنوا المؤمنين فيه نصر للنبيء صلى الله عليه وسلم وتثبيت له‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏13‏]‏

‏{‏إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ ‏(‏13‏)‏‏}‏

تصلح لأن تكون استئنافاً ابتدائياً انتُقل به من وعيدهم بعذاب الآخرة إلى توعدهم بعذاب في الدنيا يكون من بطش الله، أردف به وعيد عذاب الآخرة لأنه أوقع في قلوب المشركين إذ هم يحسبون أنهم في أمن من العقاب إذ هم لا يصدقون بالبعث فحسبوا أنهم فازوا بطيب الحياة الدنيا‏.‏

والمعنى‏:‏ أن الله يبطش بهم في البَدْء والعَوْد، أي في الدنيا والآخرة‏.‏

وتَصلح لأن تكون تعليلاً لجملة‏:‏ ‏{‏إن بطش ربك لشديد‏}‏ ‏[‏البروج‏:‏ 12‏]‏ لأن الذي يُبدِئ ويعيد قادر على إيقاع البطش الشديد في الدنيا وهو الإِبداء، وفي الآخرة وهو إعادة البطش‏.‏

وتصلح لأن تكون إدماجاً للاستدلال على إمكان البعث أي أن الله يُبدِئ الخلقَ ثم يعيده فيكون كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهو الذي يبدؤا الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 27‏]‏‏.‏

والبطش‏:‏ الأخذ بعنف وشدة ويستعار للعقاب المؤلم الشديد كما هنا‏.‏

و ‏{‏يبُدئ‏}‏‏:‏ مرادف يَبْدَأ، يقال‏:‏ بَدَأ وأبْدَأ‏.‏ فليست همزة أبدأ للتعدية‏.‏

وحُذف مفعولا الفعلين لقصد عموم تعلق الفعلين بكل ما يقع ابتداءً، ويعادُ بعد ذلك فشمل بَدأ الخلق وإعادتَه وهو البعث، وشمَل البطشَ الأول في الدنيا والبطش في الآخرة، وشمل إيجاد الأجيال وأخلافها بعد هلاك أوائلها‏.‏ وفي هذه الاعتبارات من التهديد للمشركين محامل كثيرة‏.‏

وضمير الفصل في قوله‏:‏ ‏{‏هو يبدئ‏}‏ للتقوِّي، أي لتحقيق الخبر ولا موقع للقصر هنا‏.‏ إذ ليس في المقام ردّ على من يدّعي أن غير الله يبدئ ويعيد‏.‏ وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أولئك هم المفلحون‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏5‏)‏ أن ضمير الفصل يليه الفعل المضارع على قول المازني، وهو التحقيق‏.‏ ودليلُه قوله‏:‏ ‏{‏ومكر أولئك هو يبور‏}‏ وقد تقدم في سورة فاطر ‏(‏10‏)‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏14- 16‏]‏

‏{‏وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ‏(‏14‏)‏ ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ ‏(‏15‏)‏ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ ‏(‏16‏)‏‏}‏

جملة معطوفة على جملة‏:‏ ‏{‏إن بطش ربك لشديد‏}‏ ‏[‏البروج‏:‏ 12‏]‏‏.‏ ومضمونها قسيم لمضمون ‏{‏إن بطش ربك لشديد‏}‏ لأنه لما أفيد تعليل مضمون جملة‏:‏ ‏{‏إن الذين فتنوا المؤمنين‏}‏ ‏[‏البروج‏:‏ 10‏]‏ إلى آخره، ناسب أن يقابَل بتعليل مضمون جملة ‏{‏إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات‏}‏ ‏[‏البروج‏:‏ 11‏]‏ إلى آخره، فعلِّل بقوله‏:‏ ‏{‏وهو الغفور الودود‏}‏، فهو يغفر للذين تابوا وآمنوا وعملوا الصالحات ما فَرَط منهم وهو يحب التّوابين ويَوَدُّهم‏.‏

و ‏{‏الودود‏}‏‏:‏ فَعول بمعنى فاعل مشتق من الودّ وهو المحبة فمعنى الودود‏:‏ المحبّ وهو من أسمائه تعالى، أي إنه يحب مخلوقاته ما لم يحيدوا عن وصايته‏.‏ والمحبة التي يوصف الله بها مستعملة في لازم المحبة في اللغة تقريباً للمعنى المتعالي عن الكيف وهو من معنى الرحمة، وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن ربي رحيم ودود‏}‏ في آخر سورة هود ‏(‏90‏)‏‏.‏

ولما ذَكَر الله من صفاته ما تعلُّقه بمخلوقاته بحسب ما يستأهلونه من جزاءٍ أعْقب ذلك بصفاته الذاتية على وجه الاستطراد والتكملة بقوله‏:‏ ذو العرش المجيد‏}‏ تنبيهاً للعباد إلى وجوب عبادته لاستحقاقه العبادة لجلاله كما يعبدونه لاتقاء عقابه ورجاء نواله‏.‏

و ‏{‏العرش‏}‏‏:‏ اسم لعالَم يحيط بجميع السماوات، سمي عرشاً لأنه دال على عظمة الله تعالى كما يدل العَرش على أن صاحبه من الملوك‏.‏

و ‏{‏المجيد‏}‏‏:‏ العظيم القويُّ في نوعه، ومن أمثالهم‏:‏ «في كل شجر نارٌ، واستَمْجَد المرْخُ والعَفَار» وهما شجران يكثر قدح النار من زندهما‏.‏

وقرأه الجمهور بالرفع على أنه خبر رابع عن ضمير الجلالة‏.‏ وقرأه حمزة والكسائي وخَلف بالجر نعتاً للعرش فوصف العرش بالمجد كناية عن مجد صاحب العرش‏.‏

ثم ذَيل ذلك بصفة جامعة لعظمته الذاتية وعظمة نعمه بقوله‏:‏ ‏{‏فعال لما يريد‏}‏ أي إذا تعلقت إرادته بفعل، فَعَله على أكمل ما تعلقت به إرادته لا ينقصه شيءٌ ولا يُبطئ به ما أراد تعجيله‏.‏ فصيغة المبالغة في قوله‏:‏ ‏{‏فعال‏}‏ للدلالة على الكثرة في الكمية والكيفية‏.‏

والإِرادة هنا هي المعرَّفة عندنا بأنها صفة تخصص الممكن ببعض ما يجوز عليه وهي غير الإِرادة بمعنى المحبة مثل ‏{‏يريد اللَّه بكم اليسر‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 185‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏17- 18‏]‏

‏{‏هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ ‏(‏17‏)‏ فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ ‏(‏18‏)‏‏}‏

متصل بقوله‏:‏ ‏{‏إن بطش ربك لشديد‏}‏ ‏[‏البروج‏:‏ 12‏]‏ فالخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم للاستدلال على كون بطشه تعالى شديداً ببطشَيْننِ بَطَشَهُما بفرعون وثمود بعد أن علل ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏إنه هو يبدئ ويعيد‏}‏ ‏[‏البروج‏:‏ 13‏]‏ فذلك تعليل، وهذا تمثيل ودليل‏.‏

والاستفهام مستعمل في إرادة لتهويل حديث الجنود بأنه يسأل عن علمه، وفيه تعريض للمشركين بأنهم قد يحلّ بهم ما حَلّ بأولئك‏:‏ ‏{‏وأنه أهلك عاداً الأولى وثمودا فما أبقى‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏فبأي ءآلاء ربك تتمارى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 50 55‏]‏‏.‏

والخطاب لغير معين ممن يراد موعظته من المشركين كناية عن التذكير بخبرهم لأن حال المتلبسين بمثل صنيعهم الراكبين رؤوسهم في العناد، كحال من لا يعلم خبرهم فيُسْأل هل بلغه خبرهم أوْ لا، أو خطاباً لغير معيّن تعجيباً من حال المشركين في إعراضهم عن الاتعاظ بذلك فيكون الاستفهام مستعملاً في التعجيب‏.‏

والإِتيان‏:‏ مستعار لبلوغ الخبر، والحديث‏:‏ الخبرُ‏.‏ وتقدم في سورة النازعات‏.‏

و ‏{‏الجنود‏}‏‏:‏ جمع جند وهو العسكر المتجمع للقتال‏.‏ وأطلق على الأمم التي تجمعت لمقاومة الرسل كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 11‏]‏ واستعير الجند للملأ لقوله‏:‏ ‏{‏وانطلق الملأ منهم‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 6‏]‏ ثم رشحت الاستعارة باستعارة مهزوم وهو المغلوب في الحرب فاستعير للمهلك المستأصل من دون حرب‏.‏

وأُبدل فرعونَ وثمودَ من الجنود بدلاً مطابقاً لأنه أريد العبرة بهؤلاء‏.‏

و ‏{‏فرعون‏}‏‏:‏ اسم لملك مصر من القِبط وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا إلى فرعون وملئه‏}‏ في سورة الأعراف ‏(‏103‏)‏‏.‏

والكلام على حذف مضاف لأن فرعون ليس بجند ولكنه مضاف إليه الجند الذين كذبوا موسى عليه السلام وآذوه‏.‏ فحذف المضاف لنكتة المزاوجة بين اسمين علمين مفردين في الإبدال من الجنود‏.‏

وضُرب المثل بفرعون لأبي جهل وقد كان يلقّب عند المسلمين بفرعون هذه الأمة، وضرب المثل للمشركين بقوم فرعون لأنهم أكبر أمة تألبت على رسول من رسل الله بعثه الله لإعتاق بني إسرائيل من ذل العبودية لفرعون، وناووه لأنه دعا إلى عبادة الرب الحق فغاظ ذلك فرعون الزاعم أنه إله القبط وابن آلهتهم‏.‏

وتخصيص ثمودَ بالذكر من بقية الأمم التي كذَّبت الرسل من العرب مثل عاد وقوم تبّع، ومن غيرهم مثل قوم نوح وقوم شعيب‏.‏ لما اقتضته الفاصلة السابعة الجارية على حرف الدال من قوله‏:‏ ‏{‏إن بطش ربك لشديد‏}‏ ‏[‏البروج‏:‏ 12‏]‏ فإن ذلك لما استقامت به الفاصلة ولم يكن في ذكره تكلف كان من محاسن نظم الكلام إيثارُه‏.‏

وتقدم ذكر ثمود عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإلى ثمود أخاهم صالحاً‏}‏ في سورة الأعراف ‏(‏73‏)‏‏.‏ وهو اسم عربي ولكن يُطلق على القبيلة التي ينتهي نسبها إليه فيمنع من الصرف بتأويل القبيلة كما هنا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏19- 20‏]‏

‏{‏بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ ‏(‏19‏)‏ وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ ‏(‏20‏)‏‏}‏

إضراب انتقالي إلى إعراضهم عن الاعتبار بحال الأمم الذين كذبوا الرسل وهو أنهم مستمرون على التكذيب منغمسون فيه انغماسَ المظروف في الظرف فجعل تمكن التكذيب من نفوسهم كتمكن الظرف بالمظروف‏.‏

وفيه إشارة إلى أن إحاطة التكذيب بهم إحاطة الظرف بالمظروف لا يترك لتذكر ما حل بأمثالهم من الأمم مسلكاً لعقولهم ولهذا لم يقل بل الذين كفروا يكذبون كما قال في سورة الانشقاق‏.‏

وحُذف متعلّق التكذيب لظهوره من المقام إذ التقدير‏:‏ أنهم في تكذيب بالنبي صلى الله عليه وسلم وبالوحي المُنْزل إليه وبالبعث‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏والله من ورائهم محيط‏}‏ عطف على جملة‏:‏ ‏{‏الذين كفروا في تكذيب‏}‏، أي هم متمكنون من التكذيب والله يسلط عليهم عقاباً لا يفلتون منه‏.‏ فقوله‏:‏ ‏{‏والله من ورائهم محيط‏}‏ تمثيل لحال انتظار العذاب إياهم وهم في غفلة عنه بحال من أحاط به العدوّ من ورائه وهو لا يعلم حتى إذا رام الفرار والإِفلات وجد العدوّ محيطاً به، وليس المراد هنا إحاطة علمه تعالى بتكذيبهم إذ ليس له كبير جَدوى‏.‏

وقد قُوبل جزاء إحاطة التكذيب بهم بإحاطة العذاب بهم جزاء وفاقاً فقوله‏:‏ ‏{‏والله من ورائهم محيط‏}‏ خبر مستعمل في الوعيد والتهديد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏21- 22‏]‏

‏{‏بَلْ هُوَ قُرْآَنٌ مَجِيدٌ ‏(‏21‏)‏ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ ‏(‏22‏)‏‏}‏

إضرابُ إبطاللٍ لتكذيبهم لأن القرآن جاءهم بدلائل بيِّنة فاستمرارهم على التكذيب ناشئ عن سوء اعتقادهم صدقَ القرآن إذ وصفوه بصفات النقص من قولهم‏:‏ أساطير الأولين، إفْك مفترىً، قول كاهن، قول شاعر، فكان التنويه به جامعاً لإِبطال جميع ترهاتهم على طريقة الإِيجاز‏.‏

و ‏{‏قرآن‏}‏‏:‏ مصدر قرأ على وزن فُعلان الدال على كثرة المعنى مثل الشكران والقربان‏.‏ وهو من القراءة وهي تلاوة كلام صدر في زمن سابق لوقت تلاوة تاليه بمثل ما تكلم به متكلمه سواء كان مكتوباً في صحيفة أم كان ملقَّناً لتاليه بحيث لا يخالف أصله ولو كان أصله كلام تاليه ولذلك لا يقال لنقل كلام أنه قراءة إلا إذا كان كلاماً مكتوباً أو محفوظاً‏.‏

وكلما جاء ‏{‏قرآن‏}‏ منكراً فهو مصدر وأما اسم كتاب الإِسلام فهو بالتعريف باللام لأنه عَلَم بالغلبة‏.‏

فالإِخبار عن الوحي المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم باسم قرآن إشارة عرفية إلى أنه موحى به تعريض بإبطال ما اختلقه المكذبون‏:‏ أنه أساطير الأولين أو قول كاهن أو نحو ذلك‏.‏

ووُصف ‏{‏قرآن‏}‏ صفة أخرى بأنه مُودع في لوح‏.‏

واللوح‏:‏ قطعة من خشب مستوية تتخذ ليُكتب فيها‏.‏

وسَوْق وصف ‏{‏في لوح‏}‏ مساق التنويه بالقرآن وباللوح، يعيِّن أن اللوح كائن قُدُسي من كائنات العالم العلوي المغيَّبات، وليس في الآية أكثر من أن اللوح أودع فيه القرآن، فجعل الله القرآن مكتوباً في لوح علويّ كما جعَل التوراة مكتوبة في ألواح وأعطاها موسى عليه السلام فقال‏:‏ ‏{‏وكتبنا له في الألواح من كل شيء‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 145‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏وألقى الألواح‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 150‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 154‏]‏، وأما لوح القرآن فجعله محفوظاً في العالم العلوي‏.‏

وبعض علماء الكلام فسّروا اللَّوح بموجود سجلت فيه جميع المخلوقات مجتمعة ومجملة، وسموا ذلك بالكتاب المبين، وسموا تسجيل المخلوقات فيه بالقضاء، وسموا ظهورها في الوجود بالقدَر، وعلى ذلك درج الأصفهاني في «شرحه على الطوالع» حسبما نقله المنجور في «شرح نظم ابن زكري» مسوقاً في قسم العقائد السمعية وفيه نظر‏.‏ وورد في آثار مختلفةِ القوة أنه موكل به إسرافيل وأنه كائن عن يمين العرش‏.‏ واقتضت هذه الآية أن القرآن كله مسجل فيه‏.‏

وجاء في آية سورة الواقعة‏:‏ ‏{‏إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 77، 78‏]‏ وهو ظاهر في أن اللوح المحفوظ، والكتاب المكنون شيء واحد‏.‏

وأما المحفوظ والمكنون فبينهما تغاير في المفهوم وعموم وخصوص وجهيّ في الوقوع، فالمحفوظ‏:‏ المصون عن كل ما يثلمه وينقصه ولا يليق به وذلك كمال له‏.‏ والمكنون‏:‏ الذي لا يباح تناوله لكل أحد وذلك للخشية عليه لنفاسته ولم يثبت حديث صحيح في ذكر اللوح ولا في خصائصه وكل ما هنالك أقوال معزوّة لبعض السلف لا تعرف أسانيد عَزوها‏.‏

وورد أن القلم أول ما خلق الله فقال له‏:‏ أكتب، فجرى بما هو كائن إلى الأبد، رواه الترمذي من حديث عبادة بن الصامت وقال الترمذي‏:‏ حسن غريب، وفيه عن ابن عباس اه‏.‏

وخَلق القلم لا يدل على خلق اللوح لأن القلم يكتب في اللوح وفي غيره‏.‏

والمجيد‏:‏ العظيم في نوعه كما تقدم في قوله‏:‏ ‏{‏ذو العرش المجيد‏}‏ ‏[‏البروج‏:‏ 15‏]‏ ومجد القرآن لأنه أعظم الكتب السماوية وأكثرها معاني وهدياً ووعظاً، ويزيد عليها ببلاغته وفصاحته وإعجازه البشر عن معارضته‏.‏

ووقع في «التعريفات» للسيد الجرجاني‏:‏ أن الألواح أربعة‏:‏

أولها‏:‏ لَوح القضاء السابق على المحو والإثبات وهو لوح العقل الأول‏.‏

الثاني‏:‏ لوح القدر أي النفس الناطقة الكلية وهو المسمى اللوح المحفوظ‏.‏

الثالث‏:‏ لوح النفس الجزئية السماوية التي ينتقش فيها كل ما في هذا العالم بشكله وهيئته ومقداره وهو المسمى بالسماء الدنيا‏.‏

الرابع‏:‏ لَوح الهيولى القابل للصورة في عالم الشهادة اه‏.‏

وهذا اصطلاح مخلوط بين التصوف والفلسفة‏.‏ ولعله مما استقراه السيّد من كلام عدة علماء‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏محفوظ‏}‏ بالجر على أنه صفة ‏{‏لوح‏}‏‏.‏ وحفظ اللوح الذي فيه القرآن كناية عن حفظ القرآن‏.‏

وقرأه نافع وحده برفع ‏{‏محفوظ‏}‏ على أنه صفة ثانية لقرآن ويتعلق قوله‏:‏ ‏{‏في لوح‏}‏ ب ‏{‏محفوظ‏}‏‏.‏ وحفظ القرآن يستلزم أن اللوح المودع هو فيه محفوظ أيضاً، فلا جرم حصل من القراءتين ثبوت الحفظ للقرآن وللوح‏.‏ فأما حفظ القرآن فهو حفظه من التغيير ومن تلقف الشياطين قال تعالى‏:‏ ‏{‏إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 9‏]‏‏.‏

وأما حفظ اللوح فهو حفظه عن تناول غير الملائكة إياه‏.‏ أو حفظه كناية عن تقديسه كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 78، 79‏]‏‏.‏

سورة الطارق

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 4‏]‏

‏{‏وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ ‏(‏1‏)‏ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ ‏(‏2‏)‏ النَّجْمُ الثَّاقِبُ ‏(‏3‏)‏ إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ ‏(‏4‏)‏‏}‏

افتتاح السورة بالقسم تحقيق لما يقسم عليه وتشويق إليه كما تقدم في سوابقها‏.‏ ووقع القسم بمخلوقَين عظيمين فيهما دلالة على عظيم قدرة خالقهما هما‏:‏ السماء، والنجوم، أو نجم منها عظيم منها معروف، أو ما يبدو انقضاضه من الشهب كما سيأتي‏.‏

و ‏{‏الطارق‏}‏‏:‏ وصف مشتق من الطروق، وهو المجيء ليلاً لأن عادة العرب أن النازل بالحي ليلاً يطرق شيئاً من حجر أو وتد إشعاراً لرب البيت أن نزيلاً نزل به لأن نزوله يقضي بأن يضيفوه، فأطلق الطروق على النزول ليلاً مجازاً مرسلاً فغلب الطروق على القدوم ليلاً‏.‏

وأبهم الموصوف بالطارق ابتداء، ثم زيد إبهاماً مشوباً بتعظيم أمره بقوله‏:‏ ‏{‏وما أدراك ما الطارق‏}‏ ثم بُين بأنه‏:‏ ‏{‏النجم الثاقب‏}‏ ليحصل من ذلك مزيد تقرر للمراد بالمقسم به وهو أنه من جنس النجوم، شُبه طلوع النجم ليلاً بطروق المسافر الطارق بيتاً بجامع كونه ظهوراً في الليل‏.‏

و ‏{‏ما أدراك‏}‏ استفهام مستعمل في تعظيم الأمر، وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما يدريك لعل الساعة قريب‏}‏ في سورة الشورى ‏(‏17‏)‏، وعند قوله‏:‏ ‏{‏وما أدراك ما الحاقة‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 3‏]‏ وتقدم الفرق بين‏:‏ ما يدريك، وما أدراك‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏النجم‏}‏ خبر عن ضمير محذوف تقديره‏:‏ هو، أي الطارق النجم الثاقب‏.‏

والثقب‏:‏ خرق شيء ملتئم، وهو هنا مستعار لظهور النور في خلال ظلمة الليل‏.‏ شبه النجم بمسمار أو نحوه، وظهورُ ضوئه بظهور ما يبدو من المسمار من خلال الجسم الذي يثقبه مثل لَوح أو ثَوب‏.‏

وأحسب أن استعارة الثقب لبروز شعاع النجم في ظلمة الليل من مبتكرات القرآن ولم يرد في كلام العرب قبل القرآن‏.‏ وقد سبق قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأتبعه شهاب ثاقب‏}‏ في سورة الصافات ‏(‏10‏)‏، ووقع في تفسير القرطبي‏}‏‏:‏ والعرب تقول اثقُب نارك، أي أضئها، وساق بيتاً شاهداً على ذلك ولم يعزه إلى قائل‏.‏

والتعريف في ‏{‏النجم‏}‏ يجوز أن يكون تعريف الجنس كقول النابغة‏:‏

أقول والنجمُ قد مَالت أواخِره ***

البيت‏.‏

فيستغرق جميع النجوم استغراقاً حقيقياً وكلها ثاقب فكأنه قِيلَ، والنجوم، إلا أن صيغة الإفراد في قوله‏:‏ ‏{‏الثاقب‏}‏ ظاهر في إرادة فرد معيّن من النجوم، ويجوز أن يكون التعريف للعهد إشارة إلى نجم معروف يطلق عليه اسم النجم غالباً، أي والنجم الذي هو طارق‏.‏

ويناسب أن يكون نجماً يَطلع في أوائل ظلمة الليل وهي الوقت المعهود لِطروق الطارقين من السائرين‏.‏ ولعل الطارق هو النجم الذي يسمى الشاهد، وهو نجم يظهر عقب غروب الشمس، وبه سميت صلاة المغرب «صلاةَ الشاهد»‏.‏

روى النسائي‏:‏ ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ إن هذه الصلاة ‏(‏أي العصر‏)‏ فرضت على من كان قبلكم فضيعوها ‏"‏ إلى قوله‏:‏ ‏"‏ ولا صلاة بعدَها حتى يطلع الشاهد ‏"‏‏.‏

وقيل‏:‏ أريد ب ‏{‏الطارق‏}‏ نوع الشهب، روي عن جابر بن زيد‏:‏ أن النجم الطارق هو كوكب زُحل ‏(‏لأنه مبرز على الكواكب بقوة شعاعه‏)‏‏.‏ وعنه‏:‏ أنه الثريا ‏(‏لأن العرب تطلق عليها النجم علماً بالغَلبة‏)‏، وعن ابن عباس‏:‏ أنه نجوم برج الجَدي، ولعل ذلك النجم كان معهوداً عند العرب واشتهر في ذلك في نجم الثريا‏.‏

وقيل‏:‏ أريد بالطارق نوع الشهب ‏(‏أي لأن الشهاب ينقضّ فيلوح كأنه يَجري في السماء كما يسير السائر إذا أدركه الليل‏)‏‏.‏ فالتعريف في لفظ ‏{‏النجم‏}‏ للاستغراق، وخص عمومه بوقوعه خبراً عن ضمير ‏{‏الطارق‏}‏ أي أن الشهاب عند انقضاضه يرى سائراً بسرعة ثم يغيب عن النظر فيلوح كأنه استقر فأشبه إسراع السائر ليلاً ليبلغ إلى الأحياء المعمورة فإذا بلغها وقف سيره‏.‏

وجواب القسم هو قوله‏:‏ ‏{‏إنْ كل نفس لمَا عليها حافظ‏}‏ جُعل كناية تلويحية رمزية عن المقصود‏.‏ وهو إثبات البعث فهو كالدليل على إثباته، فإن إقامة الحافظ تستلزم شيئاً يحفظه وهو الأعمال خيرُها وشرُّها، وذلك يستلزم إرادة المحاسبة عليها والجزاء بما تقتضيه جزاء مُؤخراً بعد الحياة الدنيا لئلا تذهب أعمال العاملين سدى وذلك يستلزم أن الجزاء مؤخر إلى ما بعد هذه الحياة إذ المُشَاهَدُ تخلُّف الجزاء في هذه الحياة بكثرة، فلو أهمل الجزاء لكان إهماله منافياً لحكمة الإله الحكيم مبدع هذا الكون كما قال‏:‏ ‏{‏أفحسبتم إنما خلقناكم عبثاً‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 115‏]‏ وهذا الجزاء المؤخر يستلزم إعادة حياة للذوات الصادرة منها الأعمالُ‏.‏

فهذه لوازم أربعة بها كانت الكناية تلويحية رمزية‏.‏

وقد حصل مع هذا الاستدلال إفادةُ أن على الأنفس حفظةً فهو إدماج‏.‏

والحافظ‏:‏ هو الذي يحفظ أمراً ولا يهمله ليترتب عليه غرض مقصود‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏لَمَا‏}‏ بتخفيف الميم، وقرأه ابن عامر وحمزة وأبو جعفر وخلَف بتشديد الميم‏.‏

فعلى قراءة تخفيف الميم تكون ‏(‏إنْ‏)‏ مخففة من الثقيلة و‏{‏لَمَا‏}‏ مركبة من اللام الفارقة بين ‏(‏إنْ‏)‏ النافية و‏(‏إنْ‏)‏ المخففةِ من الثقيلة ومعها ‏(‏مَا‏)‏ الزائدة بعد اللام للتأكيد وأصل الكلام‏:‏ إن كل نفس لَعَليْها حافظ‏.‏

وعلى قراءة تشديد الميم تكون ‏(‏إنْ‏)‏ نافية و‏{‏لمَّا‏}‏ حرف بمعنى ‏(‏إلاّ‏)‏ فإن ‏(‏لَمَّا‏)‏ ترد بمعنى ‏(‏إلاّ‏)‏ في النفي وفي القَسم، تقول‏:‏ سألتُك لَمَّا فعلت كذا أي إلاّ فعلت، على تقدير‏:‏ ما أسألك إلاّ فعل كذا فآلت إلى النفي وكلٌ من ‏(‏إنْ‏)‏ المخففة و‏(‏إنْ‏)‏ النافية يُتلقَّى بها القسم‏.‏

وقد تضمن هذا الجواب زيادةً على إفادته تحقيق الجزاء إنذاراً للمشركين بأن الله يعلم اعتقادهم وأفعالهم وأنه سيجازيهم على ذلك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5- 7‏]‏

‏{‏فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ ‏(‏5‏)‏ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ ‏(‏6‏)‏ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ ‏(‏7‏)‏‏}‏

الفاء لتفريع الأمر بالنظر في الخلقة الأولى، على ما أريد من قوله‏:‏ ‏{‏إن كل نفس لما عليها حافظ‏}‏ ‏[‏الطارق‏:‏ 4‏]‏ من لوازم معناه، وهو إثبات البعث الذي أنكروه على طريقة الكناية التلويحية الرمزية كما تقدم آنفاً، فالتقدير‏:‏ فإن رأيتم البعثَ محالاً فلينظر الإِنسان مِمّ خُلق ليعلَمَ أن الخلق الثاني ليس بأبعد من الخلق الأول‏.‏

فهذه الفاء مفيدة مفاد فاء الفصيحة‏.‏

والنظر‏:‏ نظر العقل، وهو التفكر المؤدي إلى علم شيء بالاستدلال فالمأمور به نظر المُنكر للبعث في أدلة إثباته كما يقتضيه التفريع على‏:‏ ‏{‏إن كل نفس لما عليها حافظ‏}‏ ‏[‏الطارق‏:‏ 4‏]‏‏.‏

و ‏(‏مِنْ‏)‏ من قوله‏:‏ ‏{‏مم خلق‏}‏ ابتدائية متعلقة ب ‏{‏خلق‏}‏‏.‏ والمعنى‏:‏ فليتفكر الإِنسان في جواب‏:‏ مَا شيء خلق منه‏؟‏ فقدّم المتعلِّق على عامله تبعاً لتقديم ما اتصلت به من ‏(‏من‏)‏ اسم الاستفهام‏.‏

و ‏(‏ما‏)‏ استفهامية عَلّقت فعل النَّظر العقلي عن العمل‏.‏

والاستفهام مستعمل في الإِيقاظ والتنبيه إلى ما يجب علمه كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏من أي شيء خلقه‏}‏ ‏[‏عبس‏:‏ 18‏]‏ فالاستفهام هنا مجاز مرسل مركب‏.‏

وحذف ألف ‏(‏ما‏)‏ الاستفهامية على طريقة وقوعها مجرورة‏.‏

ولكون الاستفهام غير حقيقي أجاب عنه المتكلم بالاستفهام على طريقة قوله‏:‏ ‏{‏عم يتساءلون عن النبأ العظيم‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 1، 2‏]‏‏.‏

و ‏{‏الإِنسان‏}‏ مراد به خصوص منكر البعث كما علمت آنفاً من مقتضى التفريع في قوله‏:‏ ‏{‏فلينظر‏}‏ إلخ‏.‏

ومعنى ‏{‏دافق‏}‏ خارج بقوة وسرعة والأشهر أنه يقال على نطفة الرجل‏.‏

وصيغة ‏{‏دافق‏}‏ اسم فاعل من دفق القاصر، وهو قول فريق من اللغويين‏.‏ وقال الجمهور‏:‏ لا يستعمل دفَق قاصراً‏.‏ وجعلوا دافقاً بمعنى اسم المفعول وجعلوا ذلك من النادر‏.‏

وعن الفراء‏:‏ أهل الحجاز يجعلون المفعول فاعلاً، إذا كان في طريقة النعت‏.‏ وسيبويه جعله من صيغ النسب كقولهم‏:‏ لاَبن وتَامِر، ففسر دافق‏:‏ بذي دَفْق‏.‏

والأحسن أن يكون اسم فاعل ويَكون دفق مطاوع دفقه كما جعل العجاج جَبَر بمعنى انْجبر في قوله‏:‏

قد جبر الدينَ الإله فجبر ***

وأنه سماعي‏.‏

وأُطنب في وصف هذا الماء الدافق لإِدماج التعليم والعبرة بدقائق التكوين ليستيقظ الجاهل الكافر ويزداد المؤمن علماً ويقيناً‏.‏

ووُصف أنه يخرج من ‏{‏بين الصلب والترائب‏}‏ لأن الناس لا يتفطنون لذلك‏.‏

والخروج مستعمل في ابتداء التنقل من مكان إلى مكان ولو بدون بروز فإن بروز هذا الماء لا يكون من بين الصلب والترائب‏.‏

و ‏{‏الصلب‏}‏‏:‏ العمود العظمي الكائن في وسط الظهر، وهو ذو الفقرات‏.‏

و ‏{‏الترائب‏}‏‏:‏ جمع تريبة، ويقال‏:‏ تَريب‏.‏ ومحرّر أقوال اللغويين فيها أنها عظام الصدر التي بين الترقُوَتَيْن والثَّديين ووسموه بأنه موضع القلادة من المرأة‏.‏

والترائب تضاف إلى الرجل وإلى المرأة، ولكن أكثر وقوعها في كلامهم في أوصاف النساء لعدم احتياجهم إلى وصفها في الرجال‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏يخرج من بين الصلب والترائب‏}‏ الضمير عائد إلى ‏{‏ماء دافق‏}‏ وهو المتبادر فتكون جملة ‏{‏يخرج‏}‏ حالاً من ‏{‏ماء دافق‏}‏ أي يمر ذلك الماء بعد أن يفرز من بين صلب الرجل وترائبه‏.‏

وبهذا قال سفيان والحسن، أي أن أصل تكَوُّن ذلك الماء وتنقله من بين الصلب والترائب، وليس المعنى أنه يمر بين الصلب والترائب إذ لا يتصور ممر بين الصلب والترائب لأن الذي بينهما هو ما يحويه باطن الصدر والضلوع من قلب ورِئَتَيْن‏.‏

فجعل الإِنسان مخلوقاً من ماء الرجل لأنه لا يتكوّن جسم الإنسان في رحم المرأة إلا بعد أن يخالطها ماء الرجل فإذا اختلط ماء الرجل بما يُسمى ماء المرأة وهو شيء رطب كالماء يحتوي على بُوَيضات دقيقة يثبت منها ما يتكوّن منه الجنين ويُطرح ما عداه‏.‏

وهذا مخاطبة للناس بما يعرفون يومئذ بكلام مجمل مع التنبيه على أن خلق الإِنسان من ماء الرجل وماءِ المرأة بذكر الترائب لأن الأشهر أنها لا تطلق إلا على ما بين ثديي المرأة‏.‏

ولا شك أن النسل يتكون من الرجل والمرأة فيتكون من ماء الرجل وهو سائل فيه أجسام صغيرة تسمى في الطب الحيوانات المنوية، وهي خيوط مستطيلة مؤلفة من طرف مسطح بيضوي الشكل وذَنب دقيق كخيط، وهذه الخيوط يكون منها تلقيح النسل في رحم المرأة، ومقرها الأنثيان وهما الخصيتان فيندفع إلى رحم المرأة‏.‏

ومن ماء هو للمرأة كالمني للرجل ويسمى ماء المرأة، وهو بويضات دقيقة كروية الشكل تكون في سائل مقره حُويصلة من حويصلات يشتمل عليها مَبيضان للمرأة وهما بمنزلة الأنثيين للرجل فهما غدتان تكونان في جانبي رحم المرأة، وكل مَبيض يشتمل على عدد من الحُويصلات يتراوح من عشر إلى عشرين‏.‏ وخروج البيضة من الحُويصلة يكون عند انتهاء نمو الحويصلة فإذا انتهى نموها انفجرتْ فخرجت البَيضة في قناة تبلغ بها إلى تجويف الرحم، وإنما يتم بلوغ البيضة النموَّ وخروجُها من الحويصلة في وقت حيض المرأة فلذلك يكثر العلوق إذا باشر الرجل المرأة بقرب انتهاء حيضها‏.‏

وأصل مادة كِلا الماءين مادة دموية تنفصل عن الدماغ وتنزل في عرقين خلف الأذنين، فأما في الرجل فيتصل العرقان بالنخاع، وهو الصلب ثم ينتهي إلى عرق يسمى الحَبْل المَنَوي مؤلف من شرايين وأوْرِدَةٍ وأعصاببٍ وينتهي إلى الأنثيين وهما الغدتان اللتان تُفرزاننِ المني فيتكون هنالك بكيفية دُهنية وتبقى منتشرة في الأنثيين إلى أن تفرزها الأنْثيان مادةً دهنية شحمية وذلك عند دغدغة ولَذع القضيب المتصل بالأنثيين فيندفق في رحم المرأة‏.‏

وأما بالنسبة إلى المرأة فالعرقان اللذان خلف الأذنين يمران بأعلى صدر المرأة وهو الترائب لأن فيه موضع الثديين وهما من الأعضاء المتصلة بالعروق التي يسير فيها دم الحيض الحاملُ للبويضات التي منها النسل، والحيض يسيل من فَوهات عروق في الرحم، وهي عروق تنفتح عند حلول إبان المحيض وتنقبض عقب الطُّهر‏.‏ والرحم يأتيها عصب من الدماغ‏.‏

وهذا من الإِعجاز العلمي في القرآن الذي لم يكن علمٌ به للذين نزل بينهم، وهو إشارة مجملة وقد بينها حديث مسلم عن أم سلمة وعائشة‏:‏ «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن احتلام المرأة، فقال‏:‏ تغتسل إذا أبصرت الماء فقيل له‏:‏ أترى المرأة ذلك فقال‏:‏ وهل يكون الشبه إلا من قِبَل ذلك إذا علا ماءُ المرأة ماءَ الرجل أشبه الولد أخواله وإذا علا ماء الرجل ماءَها أشبه أعمامه»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏8- 10‏]‏

‏{‏إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ ‏(‏8‏)‏ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ ‏(‏9‏)‏ فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ ‏(‏10‏)‏‏}‏

استئناف بياني ناشئ عن قوله‏:‏ ‏{‏فلينظر الإنسان مم خلق‏}‏ ‏[‏الطارق‏:‏ 5‏]‏ لأن السامع يتساءل عن المقصد من هذا الأمر بالنظر في أصل الخلقة، وإذ قد كان ذلك النظر نظر استدلال فهذا الاستئناف البياني له يتنزل منزلة نتيجة الدليل، فصار المعنى‏:‏ أن الذي خلق الإنسان من ماء دافق قادر على إعادة خلقه بأسباب أخرى وبذلك يتقرر إمكان إعادة الخلق ويزول ما زعمه المشركون من استحالة تلك الإِعادة‏.‏

وضمير ‏{‏إنه‏}‏ عائد إلى الله تعالى وإن لم يسبق ذكر لمعاد ولكنّ بناءَ الفعل للمجهول في قوله‏:‏ ‏{‏خلق من ماء دافق‏}‏ ‏[‏الطارق‏:‏ 6‏]‏ يؤذن بأن الخالق معروف لا يُحتاج إلى ذكر اسمه، وأسند الرَّجع إلى ضميره دون سلوك طريقة البناء للمجهول كما في قوله‏:‏ ‏{‏خلق‏}‏ لأن المقام مقام إيضاح وتصريح بأن الله هو فاعل ذلك‏.‏

وضمير ‏{‏رجعه‏}‏ عائد إلى ‏{‏الإنسان‏}‏ ‏[‏الطارق‏:‏ 5‏]‏‏.‏

والرجع‏:‏ مصدر رَجَعَه المتعدّي‏.‏ ولا يقال في مصدر رجَع القاصر إلا الرجوع‏.‏

و ‏{‏يوم تبلى السرائر‏}‏ متعلق ب ‏{‏رجعه‏}‏ أي يَرْجعه يومَ القيامة‏.‏

و ‏{‏السرائر‏}‏‏:‏ جمع سريرة وهي ما يُسِره الإِنسان ويُخفيه من نواياه وعقائده‏.‏

وبَلْو السرائر، اختبارها وتمييز الصالح منها عن الفاسد، وهو كناية عن الحساب عليها والجزاء، وبلوُ الأعمال الظاهرة والأقوال مستفاد بدلالة الفحوى من بلو السرائر‏.‏

ولما كان بلو السرائر مؤذناً بأن الله عليم بما يستره الناس من الجرائم وكان قوله‏:‏ ‏{‏يوم تبلى السرائر‏}‏ مشعراً بالمؤاخذة على العقائد الباطلة والأعمال الشنيعة فرع عليه قوله‏:‏ ‏{‏فما له من قوة ولا ناصر‏}‏، فالضمير عائد إلى ‏{‏الإنسان‏}‏ ‏[‏الطارق‏:‏ 5‏]‏‏.‏ والمقصود، المشركون من الناس لأنهم المسوق لأجلهم هذا التهديد، أي فما للإِنسان المشرك من قوة يدفع بها عن نفسه وما له من ناصر يدافع عنه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏11- 14‏]‏

‏{‏وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ ‏(‏11‏)‏ وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ ‏(‏12‏)‏ إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ ‏(‏13‏)‏ وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ ‏(‏14‏)‏‏}‏

بعد أن تبين الدليل على إمكان البعث أعقب بتحقيق أن القرآن حق وأن ما فيه قول فصل إبطالاً لما مُوِّه عليهم من أن أخباره غير صادقة إذ قد أخبرهم بإحياء الرمم البالية‏.‏

فالجملة استئناف ابتدائي لغرض من أغراض السورة‏.‏

وافتتح الكلام بالقَسم تحقيقاً لصدق القرآن في الإِخبار بالبعث وفي غير ذلك مما اشتمل عليه من الهدى‏.‏ ولذلك أعيد القَسَم ب ‏{‏السماء‏}‏ كما أقسم بها في أول السورة، وذكر من أحوال السماء ما له مناسبة بالمقسم عليه، وهو الغيث الذي به صلاح الناس، فإن إصلاح القرآن للناس كإصلاح المطر‏.‏ وفي الحديث‏:‏ ‏"‏ مَثَل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغَيث الكثير أصاب أرضاً ‏"‏‏.‏ الحديث‏.‏

وفي اسم الرجع مناسبة لمعنى البعث في قوله‏:‏ ‏{‏إنه على رجعه لقادر‏}‏ ‏[‏الطارق‏:‏ 8‏]‏ وفيه محسن الجناس التام وفي مسمى الرجع وهو المطر المعاقب لمطر آخر مناسبة لمعنى الرجع البعث فإن البعث حياة معاقبة بحياة سابقة‏.‏

وعطف ‏{‏الأرض‏}‏ في القسم لأن بذكر الأرض إتمام المناسبة بين المقسم والمقسم عليه كما علمت من المثل الذي في الحديث‏.‏

و ‏{‏الصدع‏}‏‏:‏ الشق، وهو مصدر بمعنى المفعول، أي المصدوع عنه، وهو النبات الذي يخرج من شقوق الأرض قال تعالى‏:‏ ‏{‏أنا صببنا الماء صباً ثم شققنا الأرض شقاً فأنبتنا فيها حباً وعنباً وقضباً وزيتوناً ونخلاً‏}‏ ‏[‏عبس‏:‏ 25 29‏]‏‏.‏

ولأن في هذين الحالين إيماء إلى دليل آخر من دلائل إحياء الناس للبعث فكان في هذا القسم دليلان‏.‏

والضمير الواقع اسماً ل ‏(‏إنّ‏)‏ عائد إلى القرآن وهو معلوم من المقام‏.‏

والفصل مصدر بمعنى التفرقة، والمراد أنه يفصل بين الحق والباطل، أي يبين الحق ويبطل الباطل، والإِخبار بالمصدر للمبالغة، أي إنه لقول فاصل‏.‏

وعطف ‏{‏وما هو بالهزل‏}‏ بعد الثناء على القرآن بأنه «قول فصل» يتعين على المفسر أن يتبين وجه هذا العطف ومناسبته، والذي أراه في ذلك أنه أعقب به الثناء على القرآن رداً على المشركين إذ كانوا يزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء يهزل إذ يخبر بأن الموتى سيحْيَوْن، يريدون تضليل عامتهم حين يسمعون قوارع القرآن وإرشاده وجزالة معانيه يختلقون لهم تلك المعاذير ليصرفوهم عن أن يتدبروا القرآن وهو ما حكاه الله عنهم في قوله‏:‏ ‏{‏وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 26‏]‏ فالهزل على هذا الوجه هو ضدّ الجدّ أعني المزح واللعب، ومثل هذه الصفة إذا وردت في الكلام البليغ لا محمل لها إلا إرادة التعريض وإلا كانت تقصيراً في المدح لا سيما إذا سبقتها محمدة من المحامد العظيمة‏.‏

ويجوز أن يطلق الهزل على الهذيان قال تعالى‏:‏ ‏{‏وما هو بالهزل‏}‏ أي بالهذيان‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 16‏]‏

‏{‏إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا ‏(‏15‏)‏ وَأَكِيدُ كَيْدًا ‏(‏16‏)‏‏}‏

استئناف بياني ينبئ عن سؤال سائل يَعْجَب من إعراضهم عن القرآن مع أنه قول فصل ويعْجَب من معاذيرهم الباطلة مثل قولهم‏:‏ هو هزل أو هذيان أو سحر، فبُين للسامع أن عملهم ذلك كيد مقصود‏.‏ فهم يتظاهرون بأنهم ما يصرفهم عن التصديق بالقرآن إلا ما تحققوه من عدم صدقه، وهم إنما يصرفهم عن الإِيمان به الحفاظ على سيادتهم فيضللون عامتهم بتلك التعلات الملفقة‏.‏

والتأكيد ب ‏(‏إنَّ‏)‏ لتحقيق هذا الخبر لغرابته، وعليه فقوله‏:‏ ‏{‏وأكيد كيداً‏}‏ تتميم وإدماج وإنذار لهم حين يسمعونه‏.‏

ويجوز أن يكون قوله‏:‏ ‏{‏إنهم يكيدون كيداً‏}‏ موجهاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تسلية له على أقوالهم في القرآن الراجعة إلى تكذيب من جاء بالقرآن‏.‏ أي إنما يدَّعون أنه هزل لقصد الكيد وليس لأنهم يحسبونك كاذباً على نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات اللَّه يجحدون‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 33‏]‏‏.‏

والضمير الواقع اسماً ل ‏(‏إنّ‏)‏ عائد إلى ما فهم من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنه لقول فصل وما هو بالهزل‏}‏ ‏[‏الطارق‏:‏ 13، 14‏]‏ من الرد على الذين يزعمون القرآن بعكس ذلك، أي أن المشركين المكذبين يكيدون‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏وأكيد كيداً‏}‏ تثبيت للرسول صلى الله عليه وسلم ووعد بالنصر‏.‏

و ‏{‏كيداً‏}‏ في الموضعين مفعول مطلق مؤكد لعامله وقصد منه مع التوكيد تنوين تنكيره الدال على التعظيم‏.‏

والكيد‏:‏ إخفاء قَصد الضر وإظهار خلافه، فكيدهم مستعمل في حقيقته، وأما الكيد المسند إلى ضمير الجلالة فهو مستعمل في الإِمهال مع إرادة الانتقام عند وجود ما تقتضيه الحكمة من إنزاله بهم وهو استعارة تمثيلية، شبهت هيئة إمهالهم وتركهم مع تقدير إنزال العقاب بهم بهيئة الكائد يخفي إنزال ضره ويظهر أنه لا يريده وحسَّنها محسن المشاكلة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏17‏]‏

‏{‏فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا ‏(‏17‏)‏‏}‏

الفاء لتفريع الأمر بالإِمهال على مجموع الكلام السابق من قوله‏:‏ ‏{‏إنه لقول فصل‏}‏ ‏[‏الطارق‏:‏ 13‏]‏ بما فيه من تصريح وتعريض وتبْيين ووعدٍ بالنصر، أي فلا تستعجل لهم بطلب إنزال العقاب فإنه واقع بهم لا محالة‏.‏

والتمهيل‏:‏ مصدر مَهَّل بمعنى أمهل، وهو الإِنظار إلى وقت معيّن أو غير معين، فالجمع بين «مَهِّل» و‏{‏أمهلهم‏}‏ تكرير للتأكيد لقصد زيادة التسكين، وخولف بين الفعلين في التعدية مرة بالتضعيف وأخرى بالهمز لتحسين التكرير‏.‏

والمراد ب ‏{‏الكافرين‏}‏ ما عاد عليه ضمير ‏{‏إنهم يكيدون‏}‏ ‏[‏الطارق‏:‏ 15‏]‏ فهو إظهار في مقام الإِضمار للنداء عليهم بمذمة الكفر، فليس المراد جميع الكافرين بل أريد الكافرون المعهودون‏.‏

و ‏{‏رويداً‏}‏ تصغير رُود بضم الراء بعدها واو، ولعله اسم مصدر، وأما قياس مصدره فهو رَود بفتح الراء وسكون الواو، وهو المَهْل وعدم العجلة وهو مصدر مؤكد لفعل ‏{‏أمهلهم‏}‏ فقد أكد قوله‏:‏ ‏{‏فمهل الكافرين‏}‏ مرتين‏.‏

والمعنى‏:‏ انتظر ما سيحلّ بهم ولا تستعجل لهم انتظار تربص واتّياد فيكون ‏{‏رويداً‏}‏ كناية عن تحقق ما يحلّ بهم من العقاب لأن المطمئن لحصول شيء لا يستعجل به‏.‏

وتصغيره للدلالة على التقليل، أي مُهلة غير طويلة‏.‏

ويجوز أن يكون ‏{‏رويداً‏}‏ هنا اسم فعل للأمر، كما في قولهم‏:‏ رُويدك، لأن اقترانه بكاف الخطاب إذا أريد به اسم الفعل ليس شَرطاً، ويكون الوقف على قوله‏:‏ ‏{‏الكافرين‏}‏ و‏{‏رويداً‏}‏ كلاماً مستقلاً، فليس وجود فعل من معناه قبله بدليل على أنه مراد به المصدر، أي تصبر وَلا تستعجل نزول العذاب بهم فيكون كناية عن الوعد بأنه واقع لا محالة‏.‏

سورة الأعلى

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 5‏]‏

‏{‏سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ‏(‏1‏)‏ الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى ‏(‏2‏)‏ وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى ‏(‏3‏)‏ وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى ‏(‏4‏)‏ فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى ‏(‏5‏)‏‏}‏

الافتتاح بأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يسبح اسمَ ربه بالقول، يؤذن بأنه سيُلقي إليه عقبه بشارة وخيراً له وذلك قوله‏:‏ ‏{‏سنقرئك فلا تنسى‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 6‏]‏ الآيات كما سيأتي ففيه براعة استهلال‏.‏

والخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم

والتسبيح‏:‏ التنزيه عن النقائص وهو من الأسماء التي لا تضاف لغير اسم الله تعالى وكذلك الأفعال المشتقة منه لا ترفع ولا تنصب على المفعولية إلا ما هو اسم لله، وكذلك أسماء المصدر منه نحو‏:‏ سبحان الله، وهو من المعاني الدينية، فالأشبه أنه منقول إلى العربية من العبرانية وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ونحن نسبح بحمدك‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏30‏)‏‏.‏

وإذْ عُدِّي فعلُ الأمر بالتسبيح هنا إلى اسْم فقد تعين أن المأمور به قول دال على تنزيه الله بطريقة إجراء الأخبار الطيبة أو التوصيف بالأوصاف المقدسة لإِثباتها إلى ما يدل على ذاته تعالى من الأسماء والمعاني، ولما كان أقوالاً كانت متعلقة باسم الله باعتبار دلالته على الذات، فالمأمور به إجراء الأخبار الشريفة والصفات الرفيعة على الأسماء الدالة على الله تعالى من أعلام وصفات ونحوها، وذلك آيل إلى تنزيه المسمَّى بتلك الأسماء‏.‏ ولهذا يكثر في القرآن إناطة التسبيح بلفظ اسم الله نحو قوله‏:‏ ‏{‏فسبح باسم ربك العظيم‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 74‏]‏ وقد تقدم ذلك في مبحث الكلام على البسملة في أول هذا التفسير‏.‏

فتسبيح اسم الله النطقُ بتنزيهه في الخُوَيصَّة وبينَ الناس بذكر يليق بجلاله من العقائد والأعمال كالسجود والحمد‏.‏ ويشمل ذلك استحضارَ الناطق بألفاظ التسبيح معانيَ تلك الألفاظ إذ المقصود من الكلام معناه‏.‏ وبتظاهُرِ النطق مع استحضار المعنى يتكرر المعنى على ذهن المتكلم ويتجدد ما في نفسه من تعظيم لله تعالى‏.‏

وأما تفكر العبد في عظمة الله تعالى وترديد تنزيهه في ذهنه فهو تسبيح لذات الله ومسمَّى اسمه ولا يسمى تسبيح اسممِ الله، لأن ذلك لا يجري على لفظ من أسماء الله تعالى، فهذا تسبيح ذات الله وليس تسبيحاً لاسمه‏.‏

وهذا ملاك التفرقة بين تعلق لفظ التسبيح بلفظ اسم الله نحو ‏{‏سبح اسم ربك‏}‏، وبين تعلقه بدون اسم نحو ‏{‏ومن الليل فاسجُد له وسبحه‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 26‏]‏ ونحو ‏{‏ويسبحونه وله يسجدون‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 206‏]‏ فإذا قلنا‏:‏ ‏{‏اللَّه أحد‏}‏ ‏[‏الإخلاص‏:‏ 1‏]‏ أو قلنا‏:‏ ‏{‏هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 23‏]‏ إلى آخر السورة كان ذلك تسبيحاً لاسمه تعالى، وإذا نفينا الإِلاهية عن الأصنام لأنها لا تخلق كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الذين تدعون من دون اللَّه لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 73‏]‏ كان ذلك تسبيحاً لذات الله لا لاسمه لأن اسمه لم يجر عليه في هذا الكلام إخبار ولا توصيف‏.‏

فهذا مناط الفرق بين استعمال ‏{‏سبح اسم ربك‏}‏ واستعمال ‏{‏وسبحه‏}‏ ومَآل الإطلاقين في المعنى واحد لأن كلا الإِطلاقين مراد به الإِرشاد إلى معرفة أن الله منزه عن النقائص‏.‏

واعلم أن مما يدل على إرادة التسبيح بالقول وجودَ قرينة في الكلام تقتضيه مثللِ التوقيت بالوقت في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وسبحوه بكرة وأصيلاً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 42‏]‏ فإن الذي يكلف بتوقيته هو الأقوال والأفعال دون العقائد، ومثل تعدية الفعل بالباء مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وسبحوا بحمد ربهم‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 15‏]‏ فإن الحمد قول فلا يصاحب إلا قولاً مثله‏.‏

وتعريف‏:‏ ‏{‏اسم‏}‏ بطريق الإضافة إلى ‏{‏ربك‏}‏ دون تعريفه بالإضافة إلى عَلَم الجلالة نحو‏:‏ سبح اسمَ الله، لما يُشعر به وصف رب من أنه الخالق المدبر‏.‏ وأما إضافة ‏(‏رب‏)‏ إلى ضمير الرسول صلى الله عليه وسلم فلتشريفه بهذه الإضافة وأن يكون له حظ زائد على التكليف بالتسبيح‏.‏

ثم أجري على لفظ ‏{‏ربك‏}‏ صفة ‏{‏الأعلى‏}‏ وما بعدها من الصلات الدالة على تصرفات قدرته، فهو مستحق للتنزيه لصفات ذاته ولِصفات إنعامه على الناس بخلقهم في أحسن تقويم، وهدايتهم، ورزقهم، ورزق أنعامهم، للإِيماء إلى موجب الأمر بتسبيح اسمه بأنه حقيق بالتنزيه استحقاقاً لذاته ولوصفه بصفة أنه خالق المخلوقات خلقاً يدل على العلم والحكمة وإتقان الصنع، وبأنه أنعم بالهدى والرزق الذين بهما استقامة حال البشر في النفس والجسد وأوثرت الصفات الثلاث الأول لما لها من المناسبة لغرض السورة كما سنبينه‏.‏

فلفظ ‏{‏الأعلى‏}‏ اسم يفيد الزيادة في صفة العلو، أي الارتفاع‏.‏ والارتفاع معدود في عرف الناس من الكمال فلا ينْسب العلوّ بدون تقييد إلا إلى شيء غير مذموم في العرف، ولذلك إذا لم يذكر مع وصف الأعلى مفضل عليه أفاد التفضيل المطلق كما في وصفه تعالى هنا‏.‏ ولهذا حكَى عن فرعون أنه قال‏:‏ ‏{‏أنا ربكم الأعلى‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 24‏]‏‏.‏

والعلوّ المشتقُّ منه وصفه تعالى‏:‏ ‏{‏الأعلى‏}‏ علوّ مجازي، وهو الكمال التام الدائم‏.‏

ولم يعدَّ وصفه تعالى‏:‏ ‏{‏الأعلى‏}‏ في عداد الأسماء الحسنى استغناء عن اسمه ‏{‏العليُّ‏}‏ لأن أسماء الله توقيفية فلا يعد من صفات الله تعالى بمنزلة الاسم إلا ما كثر إطلاقه إطلاقَ الأسماء، وهو أوغل من الصفات، قال الغزالي‏:‏ والعلوّ في الرتبة العقلية مثل العلوّ في التدريجات الحسية، ومثال الدرجة العقلية، كالتفاوت بين السبب والمسبب والعلة والمعلول والفاعل والقابل والكامل والناقص اه‏.‏

وإيثار هذا الوصف في هذه السورة لأنها تضمنت التنويه بالقرآن والتثبيت على تلقيه وما تضمنه من التذكير وذلك لعلو شأنه فهو من متعلقات وصف العلوّ الإلهي إذ هو كلامه‏.‏

وهذا الوصف هو ملاك القانون في تفسير صفات الله تعالى ومحاملها على ما يليق بوصف الأعلى فلذلك وجب تأويل المتشابهات من الصفات‏.‏

وقد جُعل من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سبح اسم ربك الأعلى‏}‏ دعاء السجود في الصلاة إذ ورد أن يقول الساجد‏:‏ سبحان ربي الأعلى، ليقرن أثر التنزيه الفعلي بأثر التنزيه القولي‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏الذي خلق فسوى‏}‏ اشتملت على وصفين‏:‏ وصف الخلق ووصف تسويه الخلق، وحذف مفعول ‏{‏خلق‏}‏ فيجوز أن يقدر عامّاً، وهو ما قدره جمهور المفسرين، وروي عن عطاء، وهو شأن حذف المفعول إذا لم يدل عليه دليل، أي خلق كل مخلوق فيكون كقوله تعالى حكاية عن قول موسى‏:‏ ‏{‏ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 50‏]‏‏.‏

ويجوز أن يقدر خاصاً، أي خلق الإنسان كما قدره الزجاج، أو خلق آدم كما روي عن الضحاك، أي بقرينة قرن فعل ‏{‏خلق‏}‏ بفعل «سوى» قال تعالى‏:‏ ‏{‏فإذا سويته ونفخت فيه من روحي‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 29‏]‏ الآية‏.‏

وعطف جملة‏:‏ ‏{‏فسوى‏}‏ بالفاء دون الواو للإِشارة إلى أن مضمونها هو المقصود من الصلة وأن ما قبله توطئة له كما في قول ابن زيابة‏:‏

يا لهفَ زيَابةً للحارث الصّ *** ابححِ فالغَانِم فالآيب

لأن التلهف يحق إذا صبحهم فغنم أموالَهم وآب بها ولم يستطيعوا دفاعه ولا استرجاعه‏.‏

فالفاء من قوله‏:‏ ‏{‏فسوى‏}‏ للتفريع في الذكر باعتبار أن الخلق مقدم في اعتبار المعتبر على التسويه، وإن كان حصول التسويه مقارناً لحصول الخلق‏.‏

والتسويه‏:‏ تسويةُ ما خلقَه فإن حمل على العموم فالتسوية أنْ جعل كل جنس ونوع من الموجودات معادِلاً، أي مناسباً للأعمال التي في جبلته فاعوجاج زُبَانَى العقرببِ من تسويه خلقها لتدفع عن نفسها بها بسهولة‏.‏

ولكونه مقارناً للخلقة عطف على فعل ‏{‏خلق‏}‏ بالفاء المفيدة للتسبب، أي ترتَّبَ على الخَلق تسويتُه‏.‏

والتقديرُ‏:‏ وضْعُ المقدارِ وإيجادُه في الأشياء في ذواتها وقواها، يقال‏:‏ قَدَّر بالتضعيف وقدَر بالتخفيف بمعنىً‏.‏

وقرأ الجمهور بالتشديد وقرأها الكسائي وحده بالتخفيف‏.‏

والمقدار‏:‏ أصله كمية الشيء التي تُضبط بالذرع أو الكيل أو الوزن أو العَدّ، وأطلق هنا على تكوين المخلوقات على كيفيات منظّمة مطردة من تركيب الأجزاء الجسدية الظاهرة مثل اليدين، والباطنة مثل القلب، ومن إيداع القُوى العقلية كالحس والاستطاعة وحِيلَ الصناعة‏.‏

وإعادة اسم الموصول في قوله‏:‏ ‏{‏والذي قدر‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏والذي أخرج المرعى‏}‏ مع إغناء حرف العطف عن تكريره، للاهتمام بكل صلة من هذه الصلات وإثباتها لمدلول الموصول وهذا من مقتضيات الإطناب‏.‏

وعطْفُ قوله‏:‏ ‏{‏فهدى‏}‏ بالفاء مثل عطف ‏{‏فسوى‏}‏، فإن حمل ‏{‏خلق‏}‏ و‏{‏قدّر‏}‏ على عموم المفعول كانت الهداية عامة‏.‏ والقول في وجه عطف ‏{‏فهدى‏}‏ بالفاء مثل القول في عطف ‏{‏فسوى‏}‏‏.‏

وعطف ‏{‏فهدى‏}‏ على ‏{‏قدر‏}‏ عطفُ المسبَّب على السبب أي فهدى كلَّ مقدر إلى ما قدر له فهداية الإنسان وأنواع جنسه من الحيوان الذي له الإِدراك والإِرادة هي هداية الإِلهام إلى كيفية استعمال ما قدَّر فيه من المقادير والقوى فيما يناسب استعماله فيه فكلما حصل شيء من آثار ذلك التقدير حصل بأثره الاهتداء إلى تنفيذه‏.‏

والمعنى‏:‏ قَدّر الأشياءَ كلها فهداها إلى أداء وظائفها كما قدّرها لها، فالله لما قدّر للإِنسان أن يكون قابلاً للنطق والعِلم والصناعة بما وَهَبَه من العقل وآلات الجسد هداهُ لاستعمال فكره لما يُحصِّل له ما خُلق له، ولمَّا قَدر البقرةَ للدَّر ألهمها الرَعْي ورِثْمَانَ ولدها لِتَدرَّ بذلك للحالب، ولمّا قدر النحل لإنتاج العسَل ألهمها أن ترعى النَّور والثمار وألهمها بناء الجِبْح وخلاياه المسدسة التي تضع فيها العسل‏.‏

ومن أجلِّ مظاهر التقدير والهداية تقدير قوى التناسل للحيوان لبقاء النوع‏.‏ فمفعول «هدى» محذوف لإفادة العموم وهو عام مخصوص بما فيه قابلية الهَدْي فهو مخصوص بذوات الإِدراك والإِرادة وهي أنواع الحيوان فإن الأنواع التي خلقها الله وقدَّر نظامها ولم يقدِّر لها الإِدراك مثل تقدير الإِثمار للشجر، وإنتاج الزريعة لتجدد الإِنبات، فذلك غير مراد من قوله‏:‏ ‏{‏فهدى‏}‏ لأنها مخلوقة ومقدّرة ولكنها غير مهدية لعدم صلاحها للاهتداء، وإن جعل مفعول ‏{‏خلق‏}‏ خاصاً، وهو الإنسان كان مفعول ‏{‏قدر‏}‏ على وزانه، أي تقدير كمال قوى الإِنسان، وكانت الهداية هداية خاصة وهي دلالة الإِدراك والعقل‏.‏

وأوثر وصفا التسوية والهداية من بين صفات الأفعال التي هي نِعم على الناس ودالة على استحقاق الله تعالى للتنزيه لأن هذين الوصفين مناسبة بما اشتملت عليه من السورة فإن الذي يسوي خَلق النبي صلى الله عليه وسلم تسوية تلائم ما خلَقه لأجله من تحمل أعباء الرسالة لا يفوته أن يهيئه لحفظ ما يوحيه إليه وتيسيره عليه وإعطائه شريعة مناسبة لذلك التيسير قال تعالى‏:‏ ‏{‏سنقرئك فلا تنسى‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 6‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏ونيسرك لليسرى‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 8‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏والذي أخرج المرعى‏}‏ تذكير لخلق جنس النبات من شجر وغيره‏.‏ واقتُصر على بعض أنواعه وهو الكلأ لأنه معاش السوائم التي ينتفع الناس بها‏.‏

والمرادُ‏:‏ إخراجه من الأرض وهو إنباته‏.‏

والمرعى‏:‏ النبت الذي ترعاه السوائم، وأصله‏:‏ إما مصدر ميمي أطلق على الشيء المَرْعِيّ من إطلاق المصدر على المفعول مثل الخلق بمعنى المخلوق وإما اسم مكان الرعي أطلق على ما ينبت فيه ويُرعَى إطلاقاً مجازياً بعلاقة الحلول كما أطلق اسم الوادي على الماء الجاري فيه‏.‏

والقرينة جعله مفعولاً ل ‏{‏أخرج‏}‏، وإيثار كلمة ‏{‏المرعى‏}‏ دون لفظ النبات، لما يشعر به مادة الرعي من نفع الأنعام به ونفعها للناس الذين يتخذونها مع رعاية الفاصلة‏.‏‏.‏‏.‏

والغُثاء‏:‏ بضم الغين المعجمة وتخفيف المثلثة، ويقال بتشديد المثلثة هو اليابس من النبت‏.‏

والأحوى‏:‏ الموصوف بالحُوَّة بضم الحاء وتشديد الواو، وهي من الألوان‏:‏ سُمرة تقرب من السواد‏.‏ وهو صفة ‏{‏غثاء‏}‏ لأن الغثاء يابس فتصير خضرته حُوّة‏.‏

وهذا الوصف أحوى لاستحضار تغيُّر لونه بعد أن كان أخضر يانعاً وذلك دليل على تصرفه تعالى بالإنشاء وبالإنهاء‏.‏ وفي وصف إخراج الله تعالى المرعى وجعله غُثاء أحوى مع ما سبقه من الأوصاف في سياق المناسبة بينها وبين الغرض المسوق له الكلام إيماء إلى تمثيل حال القرآن وهدايته وما اشتمل عليه من الشريعة التي تنفع الناس بحال الغيث الذي يَنبت به المرعَى فتنتفع به الدواب والأنعام، وإلى أن هذه الشريعة تكمل ويبلغ ما أراد الله فيها كما يكمل المرعَى ويبلغ نُضجه حين يصير غثاء أحوى، على طريقة تمثيلية مكنية رُمز إليها بذكر لازم الغيث وهو المرعى‏.‏

وقد جاء بيان هذا الإِيماء وتفصيله بقول النبي صلى الله عليه وسلم «مثل ما بَعَثني الله به من الهُدى والعِلم كمثَل الغيث الكثير أصابَ أرضاً فكان منها نَقِيُّةٌ قَبِلَتْ الماء فأنبتت الكلأ والعُشُبَ الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس فشربوا وسَقوا وزرعوا» الحديث‏.‏

ويجوز أن يكون المقصود من جملة‏:‏ ‏{‏فجعله غثاء أحوى‏}‏ إدماج العبرة بتصاريف ما أودع الله في المخلوقات من مختلف الأطوار من الشيء إلى ضده للتذكير بالفناء بعد الحياة كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏اللَّه الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفاً وشيبة يخلق ما يشاء وهو العليم القدير‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 54‏]‏ للإِشارة إلى أن مدة نضارة الحياة للأشياء تشبه المدة القصيرة، فاستعير لعطف ‏{‏جعله غثاء‏}‏ الحرفُ الموضوع لعطف ما يحصل فيه حكم المعطوف بعدَ زمن قريب من زمن حصول المعطوف عليه، ويكون ذلك من قبيل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام إلى قوله‏:‏ ‏{‏فجعلناها حصيداً كأن لم تغن بالأمس‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 24‏]‏‏.‏